أنظر إليها وأحس أنها تراني أيضا... يتراءى لي ذلك الشوق الذي يجمعنا كل مساء... أضع يدي على جذعها و أتحسس تلك الخشونة الحزينة... أما هي فتعانقني بشغف، أغمض لها عيني فتنزل بي بهدوء إلى بحر الذكريات... استسلم لها كعاشق ارتحل إلى جسد المحبوب
أحس بأنفاسها الحارة تلفح وجداني... لا زالت تغوص بي في بحر عميق، لكن الأنوار كانت تتراقص بداخله كعذراوات بربرية... كانت تمدني بأنفاسها الزكية... لم أخف ولو للحظة... لم أبال للناس المارة... لم أجرؤ على فتح عيني... لم أرد أن أفارق هذا المخيال الوردي، أحسست أن قدماي ارتفعتا... ضيعت الزمان والمكان ولم أكلف نفسي عناء التفاتة نحوهما، كل شئ فقد قيمته عندما حلت الدهشة، لم يعد سوانا نتبادل الأحزان كأنفاس العشاق المتكسرة على تضاريس الوجهين المتقابلين...نادتني بصوت ملائكي مترهل... ممتلئ بشبق أنثوي أخّاذ... كنت التقطه كألواح الزجاج المنكسر... كان حادا وجميلا... عطرا فواحا كقطرة عطر باريسي تنساب في صمت على جسد مسمر ممشوق...
قالت لي: صالح... أيها الشاب الوسيم... لماذا كل هذه التفاصيل المتعبه؟ لماذا الحزن يتعشق ملامحك بهذه القسوة؟ أشارت إلى الأنوار المنبعثة من بحر الذكريات المرهقة وأردفت: غرسني شاب أشقر أزرق العينين منذ أمد بعيد، لم أعد أتذكر متى ! الأرقام تضيع وتنعدم فائدتها وسط تناحر الأيام... اعتنى بي وسقاني وداوم على ذلك، كنت كصلاة مجيدة بالنسبة له... كان يحدثني كل يوم... كنت أحس بيديه الدافئتين... وحق كل السنين التي مرت لا زلت أحن إلى دفئها... بل كان يقبلني أيضا، لم اسقط تلك الأوراق التي احتضنت شفتيه... لكن ريح الجنوب الكئيب اغتصبها مني ذات مساء خائب... كان يغني لي... أغاني الجاز العذب... كان يرهق مشاعري بموسيقاه... كأنه يدعوني لرقصة الخلد... حيث تمتزج أرواحنا في هدوء ونشي لبعضنا أسرارا ونحاول الانتحار لتذوق طعم الموت على صدر الحبيب...
أوه... تتنهد... أما اليوم يا صالح هه... لقد كبرت... تبدلت أذواقي و أفكاري أو حتى لم يمهلها الزمن كذلك ليغيرها عنوة وتكبرا... اغتصبت المبادئ واحدا تلو الآخر... لم أبالي لها، قد تسخر من كلامي ولكنني حزينة اليوم... طعم الحياة تبدل... لم اعد استشعر نسمات الهواء اللذيذة... العصافير كرهتني أحست أنني فقدت سحري... لم اعد أداعبها...
- ولكن لماذا؟ قاطعتها بدهشة اعتلت ملامحي.
ابتسمت لي وقالت: رغم انك حللت بي يا صالح إلا أنني أخشى عليك... أخشى أن يتهموني لتعاستك.
قهقهت بسخرية... رغم أنني صغير سيدة الجلالة... اوه كم يروق لك هذا الاسم... أحس انه متلهف لك... أراه يتذابح مع من يحملونه اليوم في حيرة... المهم سيدة الجلالة... رغم أنني لم اخبر من الدنيا ولم ترني الا بعض أوجه لها كما فعلت بك... إلا أن الحزن معتقد يدين به كل البشر شأنه شأن الموت... أن تكون حزينا... هذا ما لا يفوتني معناه أبدا... إنني سموك... حزين... حزين من أجل المدينة... حزين للصخب المخيف الذي يترصد لها كل مساء... حزين لأنني لازلت انتظرها في يأس... معذبتي السمراء...حزين لان صباح الرحيل متباطئ الخطى... حزين لكل بؤساء العالم... أحس بصفعة المظلوم وهي تعوي كل ليل بهيم... صوتها مخيف يغزو المدينة بجموح و وقاحة... حزين...
- يكفي... قاطعتني باستحياء... ضع يدك الثانية بجانب الأولى، طبقت امرها دون تردد، صباح مثل هذا لا يمكنني تضييعه بسبب عناد صبياني
- إنني خائفة يا صالح...
- ما يخيفك سيدة الجلالة... سيدة الأشواق و المساءات البنفسجية...
- يخيفني أسياد الظلام... تلك الناس المنحسرة وجوههم عند خيط الفجر الأبيض... يقتاتون بقايا الصمت المظلم... ينعقون في المدينة كل مساء... يكسّرون رغبة الحياة في كل خطوة... يغتصبون لون الفرح مع كل إطلالة... منذ أن تركني ذلك الشاب الجميل... اوه أتذكر يوم رحل من هنا... رفع حاجياته و ركب القطار... حزنت كثيرا لأنه لم يودعني... لكنه تذكرني ونزل منه... جاء نحوي والشوق يفر من عينيه... ضمني بحنان وقال:que Dieu te bénisse؛ رحل من هنا مخلفا وراءه أملا جديدا في الحياة لمن فقدوها منذ زمن... استمرت الحياة... الحياة لا تتوقف برحيل احدهم إلا من كان يعبد احدهم... كنت فتية، كنت أتطلع للغد المبتسم...
سكن بجوارنا أنا وأخواتي شيخ أنيق، لم يشبه أبدا أقرانه، لم يكن يرتدي العمائم و "القنادر"... كان يلبس كمن سكنوا هنا قبلا... كان يداوم على أناقته... كان يضع العطر والنظارات أيضا... كان يسقينا ويقلمنا ويعتني بنا... ولكننا لم نسمع منه كلمة واحدة ! كان يحبنا ولم نسمع منه كلمة "أحبكم"، كان متغزلا بنا ولم يغن لنا... يبدو أن للحب طقوس غريبه لهؤلاء الناس... كان يجاورنا كل مساء يجلس على كرسي خشبي ويتناول كتابا... لازلت أتذكر صوت همساته... كان وهو يلتهم صفحات الكتاب ينظر إليّ وكنت أحس انه يتذكر بي شيئا ما... مرت الأيام المتشابهة وذات صباح غادرنا الرجل الأبيض... حزنت كثيرا... انتظرت طويلا كلمة "احبك" منه لكن تكبرا ذكوريا كان يمنعها عني... رحل الرجل المتوحد مع أحزانه وبدأت تتراءى لنا عذابات الغد المظلم... بدأت أشاهد تلك الوجوه المريضة وقد تكاثرت زياراتها... وحلت الكارثة ذات صباح رمادي... أتى واحد منهم والشرّ يتطاير من عينيه... كان يحمل شيئا لم اعتد على رؤيته... كان يحمل فأسا ! كأنما جاء ليشفي غليلا... كأنما جاء ليطفئ نار شهوة بهيمية... ابن الكلب لم يكتف بهذا فقط... جاء وتبول علي... يا لله مال هذه العباد؟ هل سكن بفؤاد هولاء الحجر ؟ بماذا حدثك رسولك الكريم ؟
أووه... تتأوه بحسرة... لقد أُتعبت يا صالح... لم تعد تؤثر فيّ مشاهد اغتصاب الشجر... لم تزعجني رائحة البول... فقدت طعم الحياة... سقطت الكثير من أخواتي على هذه الأرض الطاهرة... دنسها أسياد الظلام... اعتدت على هذا الرعب المتجدد... أريد فقط أن أموت... أن أموت بهدوء وسط هذه الكآبة الجوفاء...
- كفى أرجوك، قاطعتها بمرارة... سيدة الجلالة... مثلك لا يموت في هذا الجفاء... أمثالك يجب أن يعيشوا ليهبوا الحياة... أمثالك ينيرون دروب النجاح المتلونة... أمثالك يلهمون الفقراء في بؤسهم... أتوسل إليك... انظري معي إلى تقاسيم الصباح الواعد... انظري...
- شررر، صوت ما قاطعني... فتحت عيني فإذا بأحدهم يتبول على شجرة قريبة...!
سحبت يداي... طأطأت رأسي وهمست بخجل:
- لك الله يا شجرة الصنوبر... كان هذا ذات صباح غير واعد !
غني عن البيان حال الشجرة في وطننا العربي، فهي كالإنسان العربي تعاني التهميش و الإقصاء والقطع أيضا، رغم أن ديننا الإسلامي أوصانا بالشجرة مرارا وتكرارا وكذلك فعل رسول الإسلام، فأين ديننا وأين نحن من الشجرة؟
RépondreSupprimerتدور القصة في حوار متخيل بيني وبين شجرة الصنوبر، اعتدت أن ازور محطة القطار القديمة حيث تتواجد عدة شجرات صنوبر وآثار قديمة للمستعمر الفرنسي تعود للعام 1913 حسب الروايات الشفهية، كما حاولت في هذه الأسطر المقارنة بين ثلاثة صور، الصورة الأولى تجسدت في الشاب الأشقر ذو العينين الزرقاوين بمعنى المستعمر الذي غرسها واعتنى بها أما الصورة الثانية فكانت الرجل الأبيض والذي جسد شخصية الرجل الذي هاجر ثم عاد يبحث عن هدوء منشود، تأثر بالحضارة التي عاشها هناك إلا أن أشياء كثيرة فيه لم تتغير، ثم الصورة الثالثة وهي القاتمة والتي تجسدت في واقعنا المعاش حاليا
القصة حدثت معي بالفعل ذات صباح، حزنت كثيرا يومها ولكنني كتلك الشجرة اعتدت في كل زيارة إلى هذا المكان على رؤية هذا المشهد الخليع
حاولت تغيير الواقع ولم أيأس ولعل قصتي هذه تمثل لي وللكثيرين بادرة يمكن أن تتغلب ذات يوم على ليل الغوغائية الحالك...
http://www.sawt-alahrar.net/online/pdf/archives/09-2010/pdf08092010.pdf
RépondreSupprimer