lundi 6 septembre 2010

قراءة في كتاب: القدس بين اليهودية والإسلام




وهيّجب للبيت المقـدس لوعــة * يطول بـها منه اليــك الشـوق
هو البيت ان تفتحه، والله فاعل * فما دونه باب من الشام مغلق

إن ما يسمى "مركزية قضية القدس" في الصراع العربي الإسرائيلي ظل شعارا لكل من الطرفين منذ نشوب هذا الصراع، إلا أن الاختلاف كان مفصليا في مراحل عديدة منه، فالتوظيف السليم و المدروس "لقضية القدس" لم يتساو لدى الطرفين، وبان التفوق اليهودي في أغلبه، لا لمشروعيه طرحهم إنما لأن طرحهم كان مشروعا دقيقا لا يتبنى فقط وجهة النظر الدينية التوراتية بل ناقش وحاجج حتى الدعاوى الإسلامية وحاول تفنيدها.
تتجلى "قمة الغلو الصهيوني" في دعاوى "رابطة الدفاع اليهودية"، كتبها مؤسس هذه الرابطة "دانيال ياسبس"والتي يتمحور حولها كتاب "القدس بين اليهودية والإسلام" لمؤلفه الدكتور محمد عمارة.
يشير الكاتب في البداية إلى المنهج الذي علمنا إياه القرآن الكريم في التعامل مع دعاوى الخصوم، فيقول :
( لا نتجاهل ما يدّعون... ولا نصادر ما يقولون... وإنما نجادل بالتي هي أحسن... ونحاور بالمنطق والحجة والبرهان)، ويضرب أمثلة عديدة يبين فيها كيفية تعامل القرآن مع أهل الشرك والوثنية ونأخذ على سبيل المثال قولهم أن القرآن كلام بشر، فكان الرد الإلهي قاطعا حجة وبرهانا :(أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين.)الطور(33،34) ويشير الكاتب إلى أن الاستدلال بالقرآن والسنة "وقف على من يؤمن بأنه حق" وهذا حال المسلمين إذا اختلفوا في مسألة من المسائل و "أما إذا كان الحوار مع دعاوى الذي لا يؤمنون بالله، ولا قرآنه، ولا برسوله فإن المنطق العقلي والحجة البرهانية هي أدواتنا في الحوار" ويمكن القول بأن المنهاج القرآني تجلى في صورة بهية في هذه الدراسة حول القدس الشريف. فغنيّ عن البيان كثرة الدراسات التي كتبها العرب والمسلمون عن مدينة القدس، ولكن الدكتور عمارة يشير إلى ندرة الدراسات التي اهتمت بمناقشة دعاوى اليهود والصهاينة والاستعمار الغربي حول "الحق اليهودي في المدينة" والأندر من ذلك الدراسات التي فندت دعاوى هؤلاء "بالمنطق العقلي"، فأخذ المؤلف على عاتقه تفنيد دعاوى اليهود الصهاينة والمتمثلة في "وثيقة رابطة الدفاع عن اليهودية" حول أحقيتهم في المدينة، ساعده في ذلك حكمة المنهاج الرباني في التعامل مع أمثالهم، ثم يختم الدراسة بحديث حول معنى "إسلامية القدس" وكيف أن فيها إشاعة لقدسيتها لكل أصحاب المقدسات.
يفرد الكاتب ثلاثة عشر صفحة لعرض محتوى الوثيقة التي تبيّن ما يسمى "الحق اليهودي" في المدينة ويبرز أنها لم تكتف بهذا، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك وراح كتابها يشككون في قيام علاقة "جدية" بين القدس والإسلام. تتمثل أهم عناصر الوثيقة كالتالي:
- القدس أعظم مدينة دينية بالنسبة لليهود، فهم يصلون باتجاهها ويذكرون اسمها في صلاتهم ولمباركة طعامهم... في حين يزعمون أن القدس ليست مهمة في حياة المسلمين لأنها تأتي في المرتبة الثالثة بعد مكة والمدينة، والمسلمون لا يذكرون اسمها في صلواتهم ولا يتوجهون لها في القبلة.
- لم تكن القدس عاصمة ثقافية أو سياسية لدولة الإسلام، إنما كانت أهميتها تظهر وتطفو كلما زادت "المنفعة السياسية" والعكس صحيح، ويستدلون بالحكم الأموي والذي خلاله بنيت قبة الصخرة لاستثارة مشاعر المسلمين على عدوهم في مكة آنذاك ! بل يذهبون إلى حد الزعم بأن الأمويين هم من أوجد متسعا للقدس في القرآن الكريم تحت تسمية المسجد الأقصى !
- ويدعّمون قولهم حول الأهمية السياسية فقط لمدينة القدس لدى المسلمين، عند وصول جحافل الصليبيين الى المدينة، ويقولون أن رد الفعل الإسلامي كان ضعيفا ! إلا بعد أن أعاد "الحكام المسلمون" الاعتبار لها، ويزعمون أيضا ان تزايد النشاط اليهودي في بداية القرن أيقظ المسلمين لتثور ثائرتهم عندما استولى اليهود سنة 1967 على المدينة !
إذا كانت هذه مجمل الدعاوى الصهيونية، ويمكننا ببساطة ملاحظة الحبكة الماكرة لدعواهم التي ارتكزت أساسا على المحاججة العقلية، فلا ريب اليوم أن نشاهد الدعم اللامحدود لليهود في أنحاء كثيرة من العالم.
ينتقل بعدها المؤلف إلى "وجهة النظر الإسلامية" ويستهل كلامه بالقول: ( عندما نناقش "حجج" ودعاوى الآخرين، حول قضية القدس، يجب أن نتجرد من منطق صاحب الحق الذي يخاطب ذاته... فنتحدث بالمنطق "الموضوعي البارد" الذي يفند "حجج الخصوم، بمنطق هؤلاء الخصوم"). ويمكنني القول أن الرد على الوثيقة الصهيونية لم يتجاوز السبع صفحات فقط ! تترتب كالتالي:
- يسأل الكاتب: هل حقا تمثل القدس أعظم مدينة بالنسبة لليهودية ؟ لينتقل بعدها إلى تعريف اليهودية فيقول: ( إنها- بالمنطق العلمي المجرد- شريعة نبي الله موسى عليه السلام) ويضيف بأن نبي اليهودية "ولد" و "نشأ" و "عاش" و "مات" و "دفن" في مصر، ولم "تر عينه" القدس في يوم من الأيام، فأي علاقة بين اليهودية والقدس ؟؟!!
- وإذ يقولون بأنهم يصلون في اتجاه القدس ويذكرون اسمها في صلواتهم... فإنه يترتب عن كل هذا حقوق (( وطنية و سياسية و سيادية)) على القدس، فيرد الدكتور بالقول إن الارثذوكس – الصرب واليونان والمصريين والأحباش يصلون جميعا تجاه القدس ومعم في ذلك كل شعوب الكاثوليك وكل الأمم والقوميات البروتستانتية، فهل يحق لكل هؤلاء المطالبة بحقوق (( وطنية و سياسية و سيادية)) ؟! وهو نفس الواقع بالنسبة للمسلمين الجزائريين والاندونيسيين والقمريين في الصلاة إلى مكة فهل يترتب لكل هؤلاء حقوق (( وطنية و سياسية و سيادية)) ؟!
- يقولون بان داود وسليمان عليهما السلام، عاشا وحكما في القدس وفيها بنى سليمان هيكلا لليهود ونحن لا نخالفهم الرأي ولكن كل هذا لا يقيم علاقة بين اليهودية والقدس ! والسبب هو أن داود وسليمان – بمنطق اليهود واليهودية- هم من الملوك وليسوا من الرسل والأنبياء ومن ثم فإن علاقتهم بالقدس هي علاقة الاستيلاء السياسي والحربي، فأين اليهودية كدين والقدس كوطن لها ؟ فلو كان الأمر كذلك لطالبنا نحن المسلمون بإسبانيا كوطن قومي لنا لأن أجدادنا حكموها ثمانية قرون و بنوا فيها المساجد التي لا تزال قائمة ! ولطالب أحفاد الاسكندر المقدوني بكل البحر المتوسط وبلاد فارس والهند لان جدهم حكم هذه البلاد وأقام فيها المعابد !
إذا هكذا أجهز الدكتور عمارة على دعاوى اليهود في صفحات معدودات بنسق فكري مميز يتبنى سلطان العقل كحكم بيننا وبينهم، ثم ينطلق ليفند الشبهة التي تثيرها الوثيقة والتي تشكك في قيام علاقة جدية بين القدس والإسلام ويمكن إيجازها في العناصر التالية :
- قٌدمت القدس في الحديث النبوي كأول القبلتين... صلى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم خمسة عشر عاما، ثم إن السنة النبوية ساوت بين القدس ومكة والمدينة في "الاختصاص بشد الرحال".
- إن عبارة "المسجد الأقصى" في سورة الإسراء تعني مدينة القدس كل القدس ولا تعني المسجد بمعنى البناء المعماري للجامع وكذلك الحال بالنسبة لعبارة "المسجد الحرام" التي تعني مكة كل مكة، لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما أٌسري به لم يكن ساكنا ولا نائما في المسجد الحرام - الجامع- وإنما كان في مكة (( به قد تم من "المسجد الحرام" أي مكة الى "المسجد الأقصى" أي القدس)).
- إن المسلمين طوال تاريخهم عاملوا القدس معاملة الحرم الذي من مميزاته تحريم القتال وسفك الدماء فيه، والدليل فتح مكة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حرص عليه الصلاة والسلام أشد الحرص على فتحها دون قتال، وصنع المسلمون نفس الصنيع مع القدس سنة 15 للهجرة و "تفردت مكة والقدس بذلك دون جميع المدن التي فتحها المسلمون"، كما أن رمزية إستلام القدس من طرف "أمير المؤمنين" عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس "قائد الجيش" رغم أنه -أمين الأمة- أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، دليل قوي على خصوصية المدينة، وبنفس الطريقة تسلمها الناصر صلاح الدين دون قتال.
- ان حديث الوثيقة على أن القدس لم تكن أبدا عاصمة للدولة الإسلامية جدير "بعالم النكات"، فيقول الكاتب أن مكة لم تكن يوما عاصمة للدولة الإسلامية، فهل هذا يجعلها في مرتبة ثانوية ؟
ثم إن المسلمين سموها : القدس، بيت المقدس، الحرم القدسي... فجعلوا من القداسة اسمها لها وعنوانا عليها.
لنستخلص من كل ما سبق أهمية القدس بالنسبة للمسلمين وبطلان دعاوى اليهود الصهاينة حول "أحقية مزعومة" .
ثم ينتقل الكاتب إلى الفصل الثالث والأخير الذي يبرز فيه معنى ورمزية "إسلامية القدس"، ويشير إلى أن القدس تمثل "رباطا يجسد وحدة الدين الإلهي" في معجزة الإسراء، فالمسجد الحرام أول بيت وضع للناس أما المسجد الأقصى فهو قبلة النبوات السابقة. كما أن التاريخ شاهد على أن الإسلام وحــــده من عامل المدينة معاملة الحرم، وكان يتسلمها دون قتال فيها عكس الصليبيين مثلا الذين أساحوا الدماء حتى بلغت الركب ! كما لا زال التاريخ يشهد وحشية ما يحدث اليوم في المدينة من طرف الصهاينة من تقتيل واستيطان وقطع للشجر ! ويضيف الدكتور عمارة بأن الإسلام متفرد "بجعل الإيمان بالنبوات والرسالات السابقة جزءا من عقيدته" ولقد "كانت الدولة الإسلامية وحدها دون سواها المؤتمنة والأمينة على المقدسات غير الإسلامية بينما كان العكس أي الاحتكار موقف كل السلطات غير الإسلامية"، ويضرب لنا في ذلك أمثلة متعددة، فالرومان الوثنيون احتكروها دون اليهود والنصارى ثم بعد تحولهم للنصرانية احتكروها لأنفسهم دون اليهود وصنع هذا الاحتكار الصليبيون أيضا، بعد ذبحهم اليهود مع المسلمين، ونفس الاحتكار نشهده اليوم من الصهاينة عندما يطاردون الوجود العربي إسلاميا ونصرانيا.
ويضيف بأن "الفارق بين المسلمين وغيرهم ليس مجرد تسامح يقابل التعصب... إنما هو دين واعتقاد ديني... وجعلت دولة الإسلام من أمان وتأمين غير المسلمين على عقائدهم وصلبانهم وكنائسهم دينا وعهدا وميثاقا".
بعد بيان مكانة وأهمية القدس لدى المسلمين، ينبه الدكتور عمارة إلى أهمية التعامل مع القدس، فلا يجب التعامل معها كقطعة أرض أو عاصمة قومية للدولة الفلسطينية، بل وجب التعامل معها كعقيدة لأزيد من مليار وثلث مسلم
"إنها عاصمة الوطن الفلسطيني... ومحور الصراع العربي الصهيوني، وفوق كل ذلك، إنها عقيدة إسلامية وحرم ومقدس، والرباط بينها وبين الحرم المكي تجسيد لوحدة دين الله"، ويشدد على أن إسلامية موقفنا في الصراع حولها " يضيف للإمكانيات الوطنية الفلسطينية والطاقات القومية العربية ولا ينتقص منها "
ويقارن أيضا بين التوظيف الديني لليهودية في هذا الصراع من خلال صياغة أساطير وخرافات دينية لهذا المشروع الاستعماري، وحتى الاستعمار الغربي أيضا وظف الدين قبل قدوم اليهود
فكل هذا "يجعل من استدعاء الأبعاد الدينية الإسلامية لموقفنا من هذه القضية ضرورة صراعية، فضلا على أنها دين واعتقاد..."
يمكن القول كخلاصة، أن الكتاب لخص المشاكل والحلول، بنسق فكري يبين عن سعة رؤية لدى الدكتور محمد كما يمكنني القول أن الكتاب يؤسس لنظرة بعيدة ومتكاملة لقضية القدس، فلا زلنا نخسر المدينة يوما بعد آخر، ولا زالت جهودنا مبعثرة ولا تصب كلها بالضرورة في مصلحة قضية القدس، لذا وجب علينا كمسلمين، استدعاء "إسلامية قضية القدس" كركيزة أساسية ومهمة في قلب هذا الصراع.

1 commentaire:

  1. وقع اختياري على هذا الكتاب نظرا لأهمية الموضوع الذي يتناوله، فلازلنا نسمع الأخبار الحزينة وهي تأتي كل يوم من القدس التي تئن تحت وطأة الاحتلال منذ أزيد من نصف قرن، كما أن القدس تجسد في نظر كل مسلم حالة الأمة المنبطحة الأسيرة. ساعدني في كل هذا الأسلوب المتقن للدكتور محمد عمارة فارس العقلانية الإسلامية ومنظرها الأكبر، فالكتاب ممنهج ومفصل حاله حال أي كتاب أكاديمي، يتبنى منهجية البحث العلمي ويؤسس لها، وكطالب جامعي أحاول الالتزام بالمنهج الأكاديمي ما استطعت، كانت كتب الدكتور عامة وهذا الكتاب خاصة مساعدة ومسهلة لعمل كالذي هو بين أيديكم –قراءة في كتاب-
    ----------
    رابط الكتاب لمن أراد الإستزادة
    http://www.dr-emara.com/Books/049.pdf

    ملاحظة: الموضوع حرر يوم 28 ماي 2010

    RépondreSupprimer