mercredi 9 juin 2010

محارب السوق... قصة قصيرة



الحاج قدور...شيخ يكاد يفرّ من السبعينات بعد أشهر قليلة، لم يحج بيت الله ولكن لباقة الناس من حوله تستحي من لون شعره ولحيته وتستحي أيضا من خطوط الزمن المحفورة على جبينه، فتناديه بالحاج إعلاء لقدره وتجنبا لكلمات ساخطة لا داعي لها في زمن لا حاجة لأحد فيه بأن يتلقى بعضا من إيمان العجائز !
يعيش الحاج قدور مع زوجته وابنه الذي أهداه كمّا معتبرا من أولاد ذكور، أدخل بهم بهجا وسرورا لن يستطيع قدور نفسه التعبير عنهما...عاطفته وهو يلاعبهم أو يستقبلهم من مدرسة أو سفر تكاد تتفتق عيونا وأنهارا ، يدخل بهم بيته ويصرخ ناهرا زوجته أو زوجة ابنه بأن تعدّا غداء الأبطال...حب حار فيه والدهم واندهش له ولكنه يعلم في قرارة من نفسه أن مآله سيكون كذلك أو أشدّا.
زوجة الحاج قدور، خيرة، تقاسمت مع الرجل بساطة حياة هادئة بدت لكليهما صاخبة وحزينة...تقاسمت معه أيضا حبا غريبا، يحبها وتحبه ولم تسمع منه كلمة "أحبك" طوال خمسين سنة... تقاسمت معه أيضا أشياء أخرى...
الحاج قدور، كغيره من أقرانه، يعقدون كل صباح باكر اجتماعات طارئة، يتداولون فيها أخبار من يعرفونه ومن لا يعرفونه...فلان زوج ابنته ولم يدعنا للعرس، الجو اليوم ينبئ بقدوم ثلوج ولون السحاب دليل، و أيضا أخبار اليوروهات من البنك وسعره في السوق، متجمعين على الأرض ومهما كان الطقس تلك عادتهم منذ أن ارتدوا العمامات إلى أن يرحلوا ليصبحوا موضوعا دسما لمن تبقى !
يوم أربعاء ، يستيقظ الحاج قدور باكرا، لا لخصوصية اليوم و إنما تلك عادته اليومية دأب عليها منذ أمد، ولكن اليوم هو السوق، فالجديد إذا في الاستيقاظ هو الهمّة العالية، وكأنه يستعد لحمل البندقية من جديد ولكن هذه المرة ليدافع عن شيء يحبه...إنه السوق !
يجلس قدور قرب الموقد، تفوح من هذه الدار رائحة القهوة، رائحة تناغيه منذ استيقاظه، كأنها دعوه من سمراء جميلة...يجلس هو وزوجته في اجتماع روتيني حول مائدة اسمها الموقد ، ناره الهادئة تسهم في حرق مشاعر الضعف وتزيدهما من صلابة النفس ما يستقويان به على شدائد الدنيا...تمد له خيرة فنجانه الخاص مليئا بالشراب المقدس وتحاول اغتنام الفرصة فتوصيه ببعض حاجات من السوق ، فيزمجر ويبدأ غضبه بالاشتداد لحين دخول رشفه القهوة الأولى إلى حلقه فتخمد غضبا صاعدا...رغم أن كليهما حار إلا أنها القهوة يا سادة !
بعد الانتهاء من ملحمة القهوة، يستل الحاج قدور عصاه ويحزم عمامته وينطلق كجواد أصيل في ساحة الوغى ، لا يلتفت يمنه ولا يسره إلا لإلقاء سلام تؤازره في كل هذا عصاه.
بخطى ثابتة و متسارعة يقترب الحاج قدور من السوق، يلتقي بالحاج أحمد فيبلغه بالنبأ السعيد...يتوقف الحاج قدور عن الحديث ويشده وتنتصب أذناه، الحاج أحمد يواصل ترهاته وقدور لا يلقي لها بالا.
- نعم أنا أعرف هذا الصوت، و يلتفت برأسه نحو هذا الصوت، إنه قادم من ذلك المحل، يضيف قدور.
يقرر ترك صاحبه ويتجه نحو المحل... لقد توقف العقل الواعي لقدور، العالم بالنسبة له ساكن وهو فقط المتحرك، قوة عجيبة استأصلته من مكانه، ونداء مألوف جذبه بقوة.
يدخل الحاج قدور المحل ولا زال فاقد الشعور، أخيرا تعرف على الصوت...نعم انه هو... إنها أغنية "تحت سماء باريس"...يجد كرسيا فيجلس وتقابله مرآة، يفاجأ بعمامة بيضاء وعصا، يستمر المغني في ذكر مناطق باريس، ومعها يعاد شريط ذكريات مغّبر، ينفث قدور فتتراءى له بعض من صور كاد نكد الزمن وظنك العيش أن يدفنها ومعها يتذكر قدور...أيام شبابه.
يبدأ عرض هذا الشريط في مهرجان "نسيان" طال هذه الفترة، وتبدأ المقدمة...
تحرر فرنسا من قبضة النازية ومعها تنطلق الاحتفالات في كل قطر، شهدها قدور وعاشها بكل جوارحه، ببعض من السذاجة، ظنا منه بأنه الفتح القريب على بلده.
ينغمس قدور في حياة أوروبية، سهر، خمر، ترحال و..."كاترين"..."تلك الشقراء الباريسية كم أحببتها" تنتقل به ذاكرته إلى قوس النصر، ذلك المنظر البهيّ من شقته، بداخلها كاترين تعدّ له قهوة بحليب وقطعة "كرواسون"، يجلسان حول مائدة تتوسطها زهرة ليلاس...يتناولان الفطور ويتحدثان عن الوجهة القادمة لرحلتهما... برلين الغربية.
يركبان سيارة "السيتروان" خاصته، وينطلقان في صباح باريسي جميل، يدير قدور الراديو ويعلن المقدم عن البث الأول لأغنية "تحت سماء باريس" للمغني "إيف مونتوند" والتي يقول فيها "تحت سماء باريس...يتمشى عشاق" ينظران إلى بعضيهما ...فتمسك بيده.
يلتفت الحاج قدور إلى اليد التي تمسكه، فيفاجأ بشاب عشريني... انه صاحب المحل، يفيق قدور ويعاود النظر إلى المرآة ويتمعّن في نفسه...العمامة...العصا...الشارب الأبيض، يحاول الشاب اغتنام هذه الفرصة التي نزلت بمحله، يسأل الشيخ الموجود في محله:
- ماذا تذكرت؟ كان سؤال جمع كل ما يريد أن يعرفه من هذا الزائر الغريب.
يتنهد الحاج قدور ومعها تكاد تفر روح الشاب من جسده، أخيرا حكاية من حكايات المحاربين القدامى، حكاية رجل حارب وجرّب ورجع...
يعاود الحاج قدور النظر في المرآة وكأنه يطلب منها إعادة شيء إليه...تخف يد الشاب عليه...فيستجمع الحاج قدور أنفاسه ويشد على عصاه وكأنه يطلب منها العون ثم يقول:
- لقد تأخرت عن السوق... ويستجمع قوائمه ويرحل
!

1 commentaire:

  1. مرحبا بكم مجددا
    كتبت هذه القصة في ديسمبر من العام الفارط وقد نشرت في جريدة الأحرار بنفس الشهر
    كثيرون هم المحاربون القدامي في بلدي وكثيرة هي همومهم وانشغالاتهم
    حاولت في هذه العجالة إلقاء بعض من الضوء على نموذج رأيته ولازلت أراه حيث اسكن
    تناولت في هذه القصة الجانب الانساني في حياة هؤلاء واعتمدت على الرمزية في المقارنة بين صورتين، خيرة وكاترين
    هل يتسع قلب الانسان لنمطين من الحياة ؟
    ماالذي جعل قدور يأنس الى نمط حياة أجداده بعدما جرب التحرر والتغرب ؟
    ثم التفت ايضا الى مفهوم الحب لديه، مفهوم غريب سائد في اغلب مجتمعاتنا، هل هذا هو الذكر العربي؟
    اسئلة كثيرة امتطيتها في هذه القصة وتركتم لكم الإجابة

    RépondreSupprimer